سامية بنت سعيد بن سيف السيابية
زارنا هادم اللذات في بيتنا فهدمَ رُكْنَه الأكْبَر ،زَارَنا ونحنُ في قِمَّة سعادتنا ،وفي قِمَّةِ الأُنْسِ بِبَعْضِنَا، فبدَّلَ الفرح في دقائِقٍ إلى تَرَح، والأُنْسَ إلى وَحْشَة، والإجتماع إلى فراق، والابْتِسامات إلى دُموع، والاستقبال إلى تَودِيع، هَدَمَ السُّرُورَ والسعادة، وَفَرَّقَ أَخِي الحبيبَ عن الجَمَاعَة، ولم يُبْقِي إلا على ذاكرةٍ بين جمعتين: جُمُعَةٍ وُلِدَ فيها ،وجُمعةٍ رَحلَ فيها، وبينَهُما ذاكرةٌ عااااامرةٌ بالأحداثِ والصُّوَر، أبْعَدُها الأبُ الشَّقٍيق، وأَقْرَبُها الشَّقِيقُ الشَّفِيق،وأَعْظَمُها رِحْلة الحجّ الأعظم معًا..
لَقدْ أَكْمَلَ شَقِيقي حبيب قلبي_رَحِمَهُ الله وغفر له_ شهرا في قبرِه، شهر.. وما زال خبر وفاته جرح لم يبرأ، يتجدد نَزْفُهُ مع كل خبر وفاة أحدهم.. شهرا من الفراق الدّنيوي، وَدَهْرًا من حُرْقَةِ الْحُزْنِ وَلَوْعَة الإشْتياق..
شهر لم تَدخُل بيتك ،ولم يَرَكَ أحبابك ،وَلَمْ يُسْمَع ذاكَ الصوتُ النَدِي -القادم من اْلماضِي الْجَميل- يَصْدَحُ من مأذنةِ حَيْ عاصِم: بحَي على الْفَلَاح…
يا لَهْفَ نَفْسي مَضَى الشَّهْر ولَم أَرَى بين وجوهِ القومِ وجهكَ المُبْتَسِم.. أُفَتِّشُ حَولِي بعينٍ مُنْكَسِرةٍ فلا أَرَاك!
لا..لستَ في بيتِكَ فأقول: رُبما في سَيَارَتِك.. اقتربتُ منها ونظرتُ طوووويلًا لَعَلَّكَ بداخِلِها… ارْتَدْ طَرْفِي حَائِرًا…؟! لَسَتَ فِيها.. رُبَّمَا في السكة بين بيتنا وبيتك كَما اعْتَدْنَا أنْ نَلْقاك.. ولكن هذِهِ المرة لَسَتَ هُناك، الأمَاكن خَاويةٌ على عَروشِها دونَك …فأين أنتَ يا نُورَ عَيني؟
لا أرَاكَ بين الرجالِ في المجلِس، ولا بين اخواتِك وبناتِك في الصَّالة، حيثُ نَقُصُ سيرة النَّبي صلى الله عليه وسلم والصحابة…رضوان الله عليهم. أَتَذَكَّر وَبِكُّل التَفاصِيل قِصة آخِر صحابي جمعتنا بك ، قصة سَلْمَان الفارسي رضِي الله عنه.
يا الله… أَتَذَكَّر تلكَ الدمعة المُنْحَدِرة من عَيْنَيك عندما تَذاكَرْنَا أول لِقَاء بين سلمان الفارسي والنَّبي… صلى الله عليه وسلم. أسأل الله جَلَّ في عُلَاه أن يجعل منزلك معهم في جناتِه بتلك الدمعةِ الخَاشعة.
“ما غيَّبَ الموتُ عن عينيهِ صورتَهُ
ولا محَا فقدُهُ حِسًّا ولا خبرا
تراهُ يبسمُ مأنوسًا بحضرتهِ
وإن تلفَّتَّ لم تلقَ الذي حضرا
مازالَ يحسبهُ حيًّا يجالِسُهُ
من يفقد الخِلَّ لا ينسى له أثرا !”
حَدَّثَنِي شَوق فُؤادِي: رُبما أجِدُك في سيح حلبان لعلك أردتَ أن تجمعنا هناك -كما هي عادتك- وَسَبَقْتنا إليه..
قَادَنِي الشَّوقُ والذهولُ لِغيابِكَ المُفَاجِئْ إلى السِّيح وَوَقَفْتُ في نفسِ المكانِ المُعْتَاد… قَلَّبْتُ نَاظري مِنْ أقصى اليمينِ إلى أَقْصَى الشّمال.. لا وجودَ لَك.. لم أرَاكَ هُناك! فرجعتُ والدمعُ في المحاجرِ يردد: “الَّذين إذا اصَابْتْهُم مّّصِيبَةٌ قَالُوا إنَّا ِلِلِه وإنَّا إِلَيهِ رَاجِعُون”
نعم.. الموتُ من دنيانا أَقْصَاك. أنتَ يا حبيبي في قبرِكَ موسدٌ منذ شهر نائمٌ في قبرِك ، مستيقظٌ في حنايا قلبي.
افترقْنا يا أخي الغالي ورحلتَ دونَ عَوْدَة! لَم نشبع منك يا حبيب قلبي؛ فهناك أحاديث لم نقلها بعد، هناك مشاعر لم تسمعها منا بعد، وهناك اجتماعات خططنا لها معا! أتذكر؟ فكيف ترحل بهذه السرعة؟
سبحاااان الله ! لقد انتهى بقدرة الله _سبحانه_
دورك من حياتنا، فكيف حالك يا نور عيني في الحَياةِ الأُخْرَى؟؟ أسأل اللهَ أنْ يجعل قبرك روضة من رياض الجنة…
أما إذا سألت عن حالِنا بعدك؟ فَلَم تَجِف العُيون من الدُّمُوع، ولاانقطعَ الصوت عن الدعاءِ لك ولا انتَهَى شُعور الْقلبِ من الفقْدِ والْوَحْشَة، رأيتُ الأيَّام تَمُرْ وَمُرْ فراقك لا يَمُرْ.. أَأَنْسَاكَ وكيفَ الخِلُّ يُنْسَى؟! أمْ كيفَ القلبُ عنك يَسْلَى؟ لستَ حُلُمًا عَابِرًا حتى نستيقظَ منه،أو خبرًا في جريدة نقرأه ونمضي.. أنتَ قِطْعَةٌ مِن القلبِ وجزءٌ من الحياةِ..
ما زَالَ المعزيين لنا فيك في بيتِنا وما زالتْ الْبَوَاكِي عليك تستقبلهن أُمِّي ! أمي_حياة الروح_ سَقيمة جدًا من الْحُزْنِ عليك.. فكيف وأنتَ بِكْرها ، وثمرة فؤادها ، وقرة عينها؟ فهل تُلام أو نُلام؟! قد حزن نبي الله يعقوب عليه السلام على ابنه دهرا “وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم”، ونقول مثل ما قال : “إنَّمَا أَشْكُو بَثْي وَحُزْنِي إلى اللهِ…” وقَدْ سَال الدَّمْع على الخَدِ الشَّريف لرسولِ اللهِ_صلى الله عليه وسلم_ على ابْنِهِ ابراهيم وكان على فراقِه لمحزون.. ونقول كما قال: (إن القلب ليحزن وإن العين لتدمع وإن على فراقك يا أخي لمحزونون).
اللهم اربط على قلوبنا وقلب أمي وأمهات المسلمين وكل من فقد عزيز أو حبيب وألهمهم الصبر والسلوان..
لله ما أعظم آية الموت! لا تُبْقِي على صوتٍ ولا صورة!! ولا تَسْمَعُ اسْمًا ولا تَرى رَسْما!! فسُبحان من أودعَ في الموتِ القدرة على اخفاءِ الأحياءِ من الحياةِ تماما وَبِسُرْعة، ولولا رحمةُ اللهِ ولطفه بخلقهِ، ورَبطه على قلوبِهم – بالإيمانِ والصَّبر- لكانَتْ مصيبةُ الموتِ جَالبةٌ للجِنُون!؛ فأيُّ قُدرةٍ هذهِ التي تَجْعَلُ من الإنسانِ الذي يَمشِي ويتحدثُ معكَ ويَأكُل ويَشْرب ويَضْحك قبل دقائق ثم يَغْدُو جسدًا بِلا حراك ،لا نفسَ فِيه ولا رُوح؟!! وأنتَ حِينَها مَجْبُور أن تَضَع مَحْبُوبك تحتَ التُّراب ؛ تدفنه بيديكَ وتَرْحَل عنه!! ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾
أيها الأحبة.. الموتُ رسالة عظيمة لعامةِ النّاس ولخاصةِ الميت، فهل فقه كل منا الرسالة؟؟
“أتمرحُ إنْ شاهدتَ نعشًا لهالكٍ
إليكِ أكفُ الحاملينَ تشيرُ
ستركَبُ ذاكَ الْمَرْكِبَ الوَعْرَ سَاعةً
إلى حيثُ سارَ الأولونَ تَسِيرُ
نَقِى مِنْ غُبَارَ الأَرْضِ بيضَ ثيابِنَا
وتلكَ رفاتُ الهَالِكِينَ تَطِيرُ
لِيَ الْوَيْلُ هَلَّا أَرْعَوِي عن مهالِكِي
أمَا في المنَايا واعظٌ ونذيرُ؟
أَمَا فِي عَويلِ النَّائِحَاتِ مُذَكْرٌ؟
أَمِ النَّوْحُ حَولِي والْبُكَاءُ صفيرُ
أَمِ الغَارةُ الشَّعْوَاءُ مِنْ أُمِّ قَشْعَمٍ
يَشُنُ أَصِيلٌ هَوْلَهَا وَبُكُورُ
على كلِ نفسٍ غيرَ نفسيَ رُزْؤُها
وَيَمْنَعُنِي مِنْهَا حِمًى وَسُتُورُ؟!
بَلَى سَوفَ تَغْشَانِي مَتَى حَانَ حِينُها
فَيَعْجَزُ عَنْها نَاصِرٌ وَعَشِيرُ
وَتَفْجَأُنِي يومًا وَزَادِي خَطِيئَةٌ
وَإِثْمٌ وَحُوبٌ في الكتابِ كبِيرُ
أََرَى الْخَطْبَ صَعْبًا وَالنُّفُوسَ شَحِيحَةً
على زخرفٍ فَانٍ مَدَاهُ قَصِيرُ
وَتِلكَ ثِمَارُ الجَهْلِ والْجَهْلُ مَرْتَعٌ
وَخِيمٌ وَدَاءٌ للِنُّفُوسِ عَقَورُ”.
اشْبَعُوا من أحبابِكم بالقربِ مِنْهُم فجذوةُ الشوقِ بعد الموتِ شُعْلَةٌ لا تَخْبُو ولا تَبْرُد، والْفُرَاقُ إذا دَنا لا يُعْطِي إنْذَار ،يَتَخَطَّفُ الأراوحُ فِي لَمْحَةِ الْبَرْقِ ، وعطشُ اللقاءِ بعدَ الموتِ لا ارتواءَ لَـه .. وتَواصَلُوا وتَسَامَحُوا وتَغَافَلوا؛ فإنَّ التَغاَفُلَ سَجِيَّة أَصْفِيَاءِ اللهِ من انبياءِه ورُسلِه “فَأسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ ولا يُبْدِهَا لَهُمْ” ولا تَجْعَلُوا تَوَافَهَ الأُمُورِ تُفَرِّقُكُم فكل شيء دونَ الموتِ تَافِه لِمَنْ ذَاقَ قَلْبَه فَقْدَ حَبيبٍ وَعَزِيز.
وَتَغَافَلْ عن أمورٍ إنَّهُ ** لَمْ يَفُز بالْحَمْدِ إلا مَنْ غَفَل.
رَحِمَ اللهُ أَخِي: جمعة، وَلِأَمْوَاتِنا وأمْواتِكم والمسلمين وجمعنا بهم فِـي مُـسْـتَـقَـرِ رَحْـمَـتِـهِ ورِضْوَانه. وأَنْ يَنْصر إخواننا المُجَاهدين في غزة وفلسطين والمستضعفين في الأرض ويربط على قُلُوبِهِم ويسَدِّد رميهم ويثبِّت أقدامهم ويزِدهم قوّة وصبرًا وجَلَدا وادْحَر اللَّهُمَّ عدوّهم ومن يوالِي عدوّهم بالمالِ والسلاحِ والإعلامِ والكلمةِ يا الله.
اللَّهُمَّ آمين.